توظيف “الاستعارة الفاسدة” لأسباب أيديولوجية.. خطابات النضال الفلسطيني وحركات الحقوق المدنية الغربية
“فلسطين ليست قضية منعزلة” يصيح أحد الخطباء الشباب في إحدى ساحات مدينة بيزا يوم الثالث من مارس/آذار الماضي ضمن واحدة من التظاهرات الإيطالية المؤيدة لفلسطين والتي تخرج في أغلبها تحت قيادة مؤسسات يعرفها الإيطاليون بالمراكز الاجتماعية: “إن الفلسطيني الذي يخرج من منزله ولا يدري إن كان سيعود أم لا هو نفسه العامل الإيطالي الذي يخرج من بيته ولا يدري إن كان سيرجع لأنه يتقاضى راتبا هزيلا، ويحوز عقد عمل حقير”.
ويواصل الخطيب الإيطالي محاولا بناء حجاجه على منطق “الاضطهاد” الذي يعيشه الإيطاليون بعد عام ونصف من حكم اليمين من جهة، والفلسطينيون الرازحون تحت نير الاستعمار الإسرائيلي منذ 75 عاما من جهة أخرى: “المنطق الذكوري والرأسمالي الذي يجعل الفلسطيني يخرج من بيته ولا يعرف إن كان سيعود هو نفسه المنطق الذي يجعل المرأة هنا تخرج من بيتها ولا تعلم إن كانت ستعود وبأي حال ستعود”.
يصيح المتظاهر بين جموع الشباب والشابات الإيطاليات في عطلة نهاية أسبوع مشمسة داعيا الجموع للثورة على الاستعباد والفقر والذكورية التي يعاني منها الإيطاليون والفلسطينيون على حد سواء: “هذه هي الأفكار التي يخشون من أن تتسلل إلى الساحات فيتضعضع على إثرها نظامهم… ولكننا نحن وبروح من البهجة والحماسة والانتقام سنواصل نضالنا” ويهتف “نضال سعيد للجميع… فلسطين حرة… فلسطين حرة… فلسطين حرة”.
“ألاعيب سياسية”
فيديو الخطاب الذي نشرته على صفحتها على منصات التواصل الاجتماعي الصحفية الإيطالية المتخصصة بالشؤون الأمنية كيارا جانيني أكدت فيه أن ما يبدو أنه مظاهرات منددة بالحرب على غزة لا ترقى لأن تكون سوى تحرك سياسي من المعارضة لتعبئة الشارع ضد الحكومة موظفة قضية إنسانية تحظى باهتمام دولي غير مسبوق لتحقيق مصالح سياسية صغيرة. “هذه ليست سوى ألاعيب سياسية وهؤلاء لا يهمهم الأطفال والنساء الذين يموتون الآن في غزة”، تقول جانيني.
هل تحويل فلسطين رمزا لكل حركة “تحرر” أو احتجاج عالمية هو استعارة تخدم النضال الفلسطيني أم إنها ديناميكية خطيرة من شأنها أن تتسبب في أضرار هيكلية على القضية الفلسطينية؟
وبعيدا عن توظيف المآسي (وهي إستراتيجية معتادة) في المناورات السياسية بين الأحزاب الإيطالية، كيف يمكن أن نقرأ الاستعارة التي تمحورت حول فلسطين في الخطاب أعلاه، والذي يكاد يكون نموذجا مطابقا لجميع الخطابات التي تُلقى ضمن هذه المظاهرات، وهل تحويل فلسطين رمزا لكل حركة “تحرر” أو احتجاج عالمية هو استعارة تخدم النضال الفلسطيني أم إنها ديناميكية خطيرة من شأنها أن تتسبب في أضرار هيكلية على القضية الفلسطينية؟
في مقاله “الاستخدام الفاسد للاستعارات واستخدام الاستعارات الفاسدة” المنشور في العدد 25 على مجلة “العلوم والتعليم” (Science & education) يؤكد كوستاس كامبوراكيس أن الاستعارات يمكنها أن تكون ببساطة مضللة، ويذهب الباحث في جامعة جنيف للقول إن “المشكلة الرئيسية التي تظهر في مجالات العلوم والتربية والإعلام هو أنه غالبًا ما يكون من السهل جدًا الخلط بين الاستعارة والظاهرة الفعلية. والأسوأ من ذلك هو أن التركيز قد يكون في نهاية المطاف على عناصر الظاهرة الفعلية التي توضحها الاستعارة بشكل أفضل. ونتيجة لذلك، قد يتجاهل الناس جوانب أخرى، ربما تكون مهمة، والتي لا تتناسب بشكل جيد مع الاستعارة”.
خلق تماهٍ بين الحالة الكولونيالية التي تمثل نموذجا سرطانيا دخيلا على أي مجتمع وتشبيهه بحركية سياسية واجتماعية طبيعية
هنا يظهر بشكل واضح أن تشبيه “نموذج استعماري إجرامي” كالنظام الإسرائيلي بأي منظومة اجتماعية وسياسية أخرى مهما بلغت درجة تدهورها لا يمكن أن يصب بأي شكل من الأشكال في صالح التوعية بالقضية الفلسطينية.
لا أحد يمكنه أن يصدق أن الإيطاليين يعانون من ظروف حياة شعب محتل، بل يجعل من النظام الإسرائيلي يبدو هو الأقرب للنظام الإيطالي الديمقراطي -الذي رخّص للمظاهرة أعلاه- منه إلى تصور أن إيطاليا تمارس الفظاعات الاستعمارية على شعبها
ذلك أن خلق تماهٍ بين الحالة الكولونيالية التي تمثل نموذجا سرطانيا دخيلا على أي مجتمع وتشبيهه بحركية سياسية واجتماعية طبيعية هو أمر لا يجرّم النظام الإيطالي في الخطاب أعلاه كون لا أحد يمكنه أن يصدق (ولا حتى صاحب الخطاب نفسه) أن الإيطاليين يعانون من ظروف حياة شعب محتل، بل يجعل من النظام الإسرائيلي يبدو هو الأقرب للنظام الإيطالي الديمقراطي -الذي رخّص للمظاهرة أعلاه- منه إلى تصور أن إيطاليا تمارس الفظاعات الاستعمارية على شعبها.
استعارة “الأرض المغتصبة”
الاستخدام السيء لفلسطين كاستعارة لا يقف في الغرب عند خطابات المظاهرات التي تقوم عادة على هذا النوع من المبالغات، ولكنه استخدام تسرب بقوة إلى حقول معرفية متجذرة في المنظومة الفكرية الغربية على غرار الدراسات النسوية. فاستعارة “الأرض المغتصبة” المنتشرة بقوة في الخطاب العربي كناية عن الحالة الاستعمارية -والتي تشكل نموذجا بليغا عما تمثله الاستعارات الدقيقة لوصف احتلال أرضٍ وانتزاعها عنوة من أصحابها مع كل ما ينجر عن ذلك من معاناة لأصحاب الأرض- دفع منظرات الحركة النسوية الراديكالية لإسقاط هذه الاستعارة على نسقٍ يجعل المرأة (كل امرأة) هي أرض محتلة ومغتصبة.
عن هذا تقول المنظرة النسوية الأميركية أندريا دووركين “أثناء ممارسة العلاقة الجنسية مع الرجل تتحول المرأة إلى أرض محتلة، بالمعنى الحرفي للكلمة، محتلة دون أي مقاومة. بل حتى إن هي وافقت على العلاقة ستبقى محتلة”.
هذا التعريف للعلاقة بين المرأة والرجل بوصفها علاقة استعمارية دفع بفلسطين للتحول في الأدبيات النسوية إلى استعارة حية عن المرأة بوصفها رمزا لكل الضحايا العزّل والأبديين في هذا العالم بل جميع المضطهدين الذين لا يملكون سوى الأدوات السلمية للمقاومة. ذلك أن المرأة تشريحيا لا تملك أداة طبيعية تدافع بها عن نفسها من سلطة المحتل (إسرائيل-الرجل) رمز الأبوية والعنف الذكوري.
هذه الاستعارة القوية والمنحوتة بسفسطة عالية لا يفسدها في الواقع سوى دخول رجال على الخط من فلسطين نفسها، لتحرير أرضهم المحتلة باستخدام السلاح. عامل كهذا ليس من شأنه فقط التشويش على صورة المرأة المحتلة أبديا لمجرد أنها امرأة، بل هدم الاستعارة من أساسها. ولا غرو في أن الحركة النسوية العالمية تعادي حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة (بقيادة رجال) بقدر معاداتها لنظام الاحتلال الإسرائيلي، فكلاهما يمثل السلطة الذكورية المحتلة للفضاء النسوي الذي لا يمكنه من الناحية الجسدية سوى أن يكون أعزل.
وعلى هذا الأساس تحولت فلسطين في أدبيات الحركة النسوية والعابرة جنسيا خلال السنوات الأخيرة لصورة الأرض التي تسعى للتحرر من سلطة أي رجل (أو أشخاص يعرّفون نفسهم على أنهم رجال) في نطاقها. فهل نحن إزاء استعارة “مثلية” جديدة لفلسطين في المخيال الغربي المعاصر ترفض احتلال أي رجل لجسدها/أرضها، فتكون بذلك رمزا للتحرر من السلطة الذكورية والتطلع لحياة يحفها السلام بدل الاحتلال اليومي الناجم عن علاقتها مع الرجال بتعريف الناقدة النسوية الأميركية أندريا دووركين؟
استعارة مؤدلجة
وفي السياق ذاته، انتشرت فقرة من رواية “المسلخ رقم 5” للروائي الأميركي كورت فونيغوت على مواقع التواصل الاجتماعي من منصة إعلامية إيطالية مؤيدة للقضية الفلسطينية، تقول: “كانوا شعبًا حقيرًا، أهل سدوم وعمورة، كما يعلم الجميع. وكان العالم أفضل حالا من دونهم. وطُلب من امرأة لوط، بالطبع، ألا تنظر إلى الوراء. المكان الذي كان فيه كل هؤلاء الناس وبيوتهم. ولكنها بدلاً من ذلك، استدارت، لذا أنا أَحبها: لأنها كانت صاحبة لفتة إنسانية عميقة”.
وأرفقت الفقرة بصور جوية للدمار الواسع الذي خلّفه القصف الإسرائيلي على غزة، وصُوّرت غزة كالقرية المغضوب عليها بسبب إتيان أهلها لفاحشة الشذوذ بحسب تعريف الأديان السماوية الثلاث، بينما تظهر إسرائيل بمقتضى هذه الاستعارة في صورة الرب الذي أنزل العذاب على أهل القرية الطيبة التي تحولت إلى رماد، أما زوجة النبي لوط “الإنسانية” فتمثل كل مؤيدي فلسطين في العالم ممن قرروا ألا يشيحوا بوجوههم عما يحدث في غزة.
قد يكون من فائض القول الإشارة إلى انعدام الذوق في هذه الاستعارة وما يكتنفها من إساءة أدب وغياب احترام للشعب الفلسطيني (المؤمن بالكتب السماوية في أغلبه)، مما يعيدنا إلى أطروحة كيارا جانيني وتشكيكها في مدى اكتراث بعض النشطاء فعليا بما يحدث في غزة ومشاعر أهلها. وحيث جرى هنا استعارة “فلسطين” على نحو صارخ للاستفادة من زخم لحظة الإبادة، وذلك لاستجلاب الضوء لرؤى أيديولوجية محددة بصرف النظر عن الضرر النفسي الذي يمكن أن تلحقه هذه الاستعارة بالفلسطينيين أنفسهم.
وقد يقول قائل أليس الغرض من توظيف أي استعارة هو الاستفادة من وهج المشبه به لتكريس الصورة التي نريدها عن المشبه؟ ليبقى السؤال الأكبر -بعيدا عن القبح الأخلاقي الذي يلف هذه المقاربة التي تستغل المأساة الفلسطينية- يتعلق بحجم ارتداداتها على القضية الفلسطينية نفسها وكيفية خروجها من نطاق اللغة إلى تأثيرها على أدائية النضال الفلسطيني.
نفاق أيديولوجي
في مقاله المعنون بـ “القضية الفلسطينية والنفاق الغربي” يكتب إدواردو زاريللي في العدد 12 من مجلة “فوكو” (Fuoco) الإيطالية أن “ما تمكنت الأيديولوجية الصهيونية من تحقيقه (…) هو بلا شك استيلاؤها التدريجي على فلسطين من الداخل على نحو كرس اليهود فيه لصورتهم على أنهم السكان الأصليون أما الفلسطينيون فهم الأجانب”. ويواصل زاريللي أن “نواة المأساة التي يحياها الفلسطينيون تكمن في هذا الوضع غير السوي تحديدا، بل هو سبب هزائمهم المتكررة، ذلك أن الصهيونية كانت أكثر من مجرد شكل استعماري طبيعي يأتي من الخارج”.
إسرائيل حرصت على الدوام على تصوير نفسها كدولة أصيلة نبتت حضاريا في أرضها التاريخية، بينما يشكل الفلسطينيون حالة طارئة لمهاجرين عرب تسربوا إلى جغرافيتها من الأطراف
والحقيقة هي أن إسرائيل حرصت على الدوام على تصوير نفسها كدولة أصيلة نبتت حضاريا في أرضها التاريخية، بينما يشكل الفلسطينيون حالة طارئة لمهاجرين عرب تسربوا إلى جغرافيتها من الأطراف. وبحكم هذه الصورة التي رسمها الإسرائيليون بعناية دخلت فلسطين تدريجيا في الأدبيات الغربية ضمن تصنيف الجماعات التي تُعرف على أنها “هامشية” على غرار الغجر والمهاجرين الأجانب والمثليين. وأصبح الفلسطيني يجد نفسه بمقتضى هذه الاستعارة ملزما معنويا باتباع قوانين هذه الحركات وأساليب مقاومتها: الصراخ، التظاهر، الرقص، الغناء وغيرها من وسائل التعبير المتاحة “للأقليات”، ليخسر آليا من تطبيعه مع رمزية الحالة الهامشية صورته المركزية كمالك للأرض، أي صاحب للحق الطبيعي في الدفاع عن نفسه بالسلاح.
الاستعارة الغربية لفلسطين بوصفها أقلية بالمفهوم الذي تطرحه سياسات الهوية، وجّهت أدائية النضال الفلسطيني إلى المطالبة بالحقوق المدنية مثله مثل أي جماعة من الأقليات العرقية والجنسية التي تعيش في الغرب، أي على نحو لا يمكن أن يتم سوى بالوسائل السلمية
وبذلك تكون الاستعارة الغربية لفلسطين بوصفها أقلية بالمفهوم الذي تطرحه سياسات الهوية، قد وجّهت أدائية النضال الفلسطيني إلى المطالبة بالحقوق المدنية مثله مثل أي جماعة من الأقليات العرقية والجنسية التي تعيش في الغرب، أي على نحو لا يمكن أن يتم سوى بالوسائل السلمية. ذلك أن الدفاع عن النفس باستخدام السلاح حق لا يمنحه القانون الدولي سوى للشعوب المحتلة لا للجماعات الهامشية بتعريف النظريات الاجتماعية سواء كانوا مهاجرين، عمالا، أو أقليات جنسية وعرقية. وإن حصل ذلك داخل أي مجتمع نكون إزاء عمليات لا تعريف آخر لها سوى أنها محض إرهاب.
وفي الوقت الذي كان فيه الغرب يمعن في تكريس فلسطين بلغة الاستعارة كأقلية هامشية و”غير سوية”، بقيت إسرائيل تقدم نفسها على أنها دولة مركزية وجزء طبيعي من المنظومة الدولية وهي على هذا الأساس تلتزم بأساليب الدفاع عن نفسها بكل الوسائل ضد أي جماعة طارئة تعتدي على أمنها، كل هذا مع أن إسرائيل هي من يمثل تاريخيا وأنثروبولوجيا هذه الجماعة الأجنبية المهاجرة والطارئة على المنطقة بل عدديا أيضا هي من يعتبر الأقلية.
توظيف سخي
وهكذا تمكّن الغرب من خلال التوظيف “السخي” لفلسطين كاستعارة في أدبياته المختلفة من بسط شبكة مفاهيم جديدة لم تقلب الفهم بكنه القضية الفلسطينية من الناحية التاريخية والأنثروبولوجية والمنطق الرياضي في المخيال الجمعي للإنسان الغربي فحسب، بل حاولت الانقلاب على القانون الدولي نفسه. وليس من المصادفة أن يكون الوفد الصيني هو من خرج أمام محكمة العدل الدولية ليذكّر الغرب في وقت سابق من الشهر الماضي أن لجوء الفلسطينيين إلى المقاومة المسلحة للحصول على استقلالهم من حكم استعماري أجنبي هو أمر “مشروع وحق غير قابل للتصرف”، بموجب القانون الدولي.
فهل سيدفع كل هذا حركات الحقوق المدنية الغربية لمراجعة استعاراتها عن فلسطين بما يتناسب وواقع الحال؟ أم إن الأدبيات التي أنتجتها هذه الحركات من خلال تشكيلاتها المعاصرة تحديدا (المدعومة من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات) لم تعد سوى حالة استعراضية طورتها المركزيات الغربية الداعمة لإسرائيل لا لشيء سوى لتقليم أظافر النضال الفلسطيني، وتحويل الفلسطينيين لمجرد أقلية ملونة “أخرى” يقتصر نضالها على عطلة نهاية الأسبوع، فيُسلبوا بذلك حقا مشروعا في المقاومة لا يكفله القانون الدولي لأي جماعة أخرى تسعى اليوم للتشبّه بهم، وكل ذلك من خلال الاستخدام الإستراتيجي لسلاح اللغة والاستعارات الفاسدة؟